إن الشرق الأوسط اليوم أكثر هدوءً مما كان عليه الوضع على مدار عقدين من الزمان”، استخدم مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جاك سوليفان هذه العبارة ليصف الوضع في الشرق الأوسط قبل ثمانية أيام فقط من هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر على مستوطنات وقواعد عسكرية إسرائيلية في منطقة غلاف غزة. كان المقصود هنا هو وصف التطورات الإيجابية في الشرق الأوسط والتي تسمح للولايات المتحدة بالتركيز على مناطق أخرى في العالم. من سخرية القدر أن هذا التصعيد غير المسبوق وما تبعه من عنف قد أظهر أن هذا الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة. أسبوع واحد بعد هذا التصريح انقلب هذا الهدوء إلى حرب شاملة، انخرط فيها بالفعل لاعبين إقليميين آخرين، ولو بشكل جزئي. لقد أعادت الحرب الوحشية على غزة القضية الفلسطينية من جديد إلى صدارة اهتمام المجتمع الدولي، وسيكون لها ما بعدها من تأثيرات متسعة على الشرق الأوسط والعالم ككل.

تسعى السطور القادمة إلى استعراض الآثار المحتملة للحرب على الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط، والتي هي بالفعل في مرمى نيران الحكومات والأنظمة. لا شك في أن التداعيات السياسية للحرب على غزة لا تقف عند احتمالية انحدار المنطقة إلى الفوضى وعدم الاستقرار؛ بل سيكون لها تأثيرات معقدة على المديين القصير والبعيد على النضالات الوطنية من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء الإقليم. وعلى الرغم من هذا الأثر الضار على حركات حقوق الإنسان في المنطقة، إلا أن تلك الحرب ستقدم أيضاً فرصًا لمراجعة استراتيجيات العمل وإعادة هيكلة نماذج التشغيل المختلفة للحركة الحقوقية بشكل كامل، وعلى جانب التأثيرات الضارة للحرب يمكن تعداد ما يلي:

مزيد من الانتهاكات في اللحظة الراهنة

تولي الحكومات القمعية في جميع أنحاء الإقليم اهتمامًا كبيرًا لصورتها الدولية، ويتضمن ذلك انتباهًا خاصًا لانتقادات حقوق الانسان العلنية التي تتلقاها من الدوائر الرسمية لحلفائها الغربيين، لدرجة الامتناع عن انتهاكات محددة فقط لتجنب مزيد من الإدانات الدولية. لم يعد هذا الردع قائمًا بعد اندلاع الحرب، ولن يكون له محل طالما استمر الهجوم على غزة؛ فمع توجه كل الأنظار حرفيًا نحو غزة، ستكتسب الحكومات في المنطقة المزيد من حرية الحركة لقمع حركات الاحتجاج والمعارضة الداخلية، وهذا دون أي تخوف من ردة الفعل الدولية. وليس أدل على ذلك من امتداد مشاهد تفريق المسيرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني خارج الإقليم إلى العديد من المدن والعواصم الغربية. يؤكد هذه النقطة ما أورده تقرير حديث ل “بلومبرج” حول أن تأكيد مصر على محورية دورها في الإقليم -والذي ظهر واضحاً في مفاوضات الهدنة- سيشتري لها صمتاً غربياً حول سجلها الحقوقي، ولو على المدى القصير.

إن تمكن الأنظمة العربية من التغلب على أو احتواء حركة الشارع المناهضة لإسرائيل، والتي خرجت تضامنًا مع الفلسطينيين واحتجاجًا على المجازر الجارية حالياً في غزة، سيطمئنهم تجاه سيطرتهم على الشارع وهو ما ينبئ أيضاً بمزيد من الانتهاكات. إن المعضلة الأخلاقية التي وقعت فيها العواصم الغربية الداعمة لإسرائيل تحت غطاء “الحق في الدفاع عن النفس”، وانشغالهم بالحرب الجارية، سيتجلى في اختفاء الضغوط العلنية والسرية حول ملف حقوق الإنسان في المنطقة، وهو ما يصب بدوره نحو استمرار وتوسع التدابير القمعية كما أسلفنا.

صدمة قوية لقيم وخطاب حقوق الانسان

على الرغم من أن نشأة وتطور المشروع الدولي لحقوق الإنسان عادة ما تُعزَى إلى قيم الليبرالية والفردانية الغربية، إلا أن الخطاب الحقوقي قد وجد صدىً ومؤيدين في جميع أنحاء العالم، وتم تعزيزه عبر مساهمات باحثين وممارسين من مختلف البلدان. رغم ذلك، لا يمكن إنكار كون الحكومات الغربية الداعم الأول والأعلى صوتاً لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية في المحافل الدولية والعلاقات الثنائية. لقد كانت حقوق الإنسان والديمقراطية إحدى الدعائم المعنوية الرئيسية للنظام الليبرالي الدولي المستند إلى قواعد بعد الحرب العالمية الثانية، وقد اكتسبت هذه القيم مزيد من الانتشار بفضل الدعم القوي من الغرب، لكنها الآن في مرمى نيران الجماهير -العربية والغربية على السواء- نتيجة ازدواج المعايير في عديد من العواصم الغربية التي تقدم دعماً غير مشروط لإسرائيل بغض النظر عن انتهاكاتها الصارخة لحقوق الانسان وللقانون الإنساني الدولي. سيؤدي هذا بكل تأكيد إلى تقويض جهود الحركات الوطنية لحقوق الإنسان في المنطقة، والتي تبنت المناصرة والضغط على الحكومات الغربية كالوسيلة الأكثر فعالية للضغط على حكوماتها لتحسين أوضاع حقوق الإنسان.

إن أي دعم غربي معنوي أو مادي لتحسين حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيتراجع أو يختفي حتى انتهاء الحرب على أقل تقدير. وحتى ذلك الحين، ليس من السهل أن نعلم ما إذا كان الغرب سيتعافى من هذا الإشكال الأخلاقي دون إجراء تقييم أخلاقي ضروري وجوهري يتطلب تحولًا هائلًا في دعمه الثابت لإسرائيل. يبقى التساؤل فقط حول أثر هذا الاشكال الإخلاقي الذي يعتري العواصم الغربية على مضمون قيم الديمقراطية وحقوق الانسان بشكل عام.

تفاقم أوضاع الحقوقيين والمنظمات الحقوقية في المنطقة

على الرغم من أن حركات حقوق الإنسان الوطنية في المنطقة تطورت بموازاة تطور ونمو الحركة الدولية لحقوق الإنسان في أواخر السبعينات والثمانينات، إلا أنها اعتمدت عدة استراتيجيات عمل مستقلة عن الدعم الدولي؛ بما في ذلك نشر الوعي، والسعي للتحالف مع البرلمانيين المتبنيين للمنظور الحقوقي، ورفع الدعاوى القضائية، والحوار مع الأنظمة الحاكمة…إلخ. ومع ذلك، كان البعد الدولي للعمل الحقوقي في المنطقة حاضرًا منذ البداية، واكتسب زخمًا أكبر مع إغلاق معظم القنوات الداخلية الذي صاحب تزايد القمع خلال العقد الماضي.

يمكن القول إن تطور الحركة الحقوقية في الإقليم قد قادها لمزيد من الاعتماد على الدعم والتمويل الأجنبي، والذي يأتي جزء كبير منه من برامج حكومية غربية. تواجه المنظمات التي تتلقى هذا التمويل الآن وضعًا صعبًا؛ فهل ستستمر في التعامل كالمعتاد مع الحكومات الغربية التي تتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني؟ وفي ظل دعم هذه الحكومات المطلق لإسرائيل، هل ستفرض قيودًا على حرية تقدير هذه المنظمات في التعامل مع الحرب والفظائع المرتكبة؟ وهل ستقوم منظمات حقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة بمراجعة أو حتى تعليق برامجها المدعومة من حكومات غربية؟ كل هذه الأسئلة تنبئ بمستقبل غير مشجع للجماعة الحقوقية في المنطقة.

إضعاف النظام الليبرالي الدولي

إن شلل المجتمع الدولي- المتمثل بشكل رئيسي في الأمم المتحدة- عن تحقيق أدنى تأثير إيجابي علي مجريات الحرب عبر السماح بدخول قدر أكبر من المساعدات إلى قطاع غزة، يُفاقم تأثيرات هذه الحرب على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهما كما أسلفنا من القيم الأساسية للنظام الليبرالي الدولي القائم على القواعد. سيؤدي ذلك بكل تأكيد إلى ترسيخ الأصوات التي تشكك بفعالية وتأثير النظام الدولي الحالي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بما يبشر بانهياره المحتمل.

يضاف إلى ذلك ما سيترتب على التحدي الصيني/الروسي للدعم الغربي لإسرائيل، ومواقفهما الأكثر استساغة لدى الجماهير العربية من تعزيز للتقارب بين الطبقات السياسية في جميع أنحاء المنطقة مع نماذج الصين وروسيا، وهو ما سيكون له آثاره الضارة على الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة والعالم ككل. إن فقدان الثقة في المجتمع الدولي في هذه الحالة يُستبدل بتزايد إعجاب النخب السياسية العربية بروسيا والصين، اللذين وقفا بالمرصاد للدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل. لقد قدمت هذه الحرب فرصة لا تُقدّر بثمن للصين وروسيا لتأكيد دعمهما لحلفائهما في المنطقة. فقد قاطعت كل من الصين وروسيا على سبيل المثال مشروع القرار الأمريكي بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي يؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. وبالإضافة إلى ذلك، طلب مشروع القرار الروسي -الذي دعمته الصين وأعاقه فقط الفيتو الأمريكي- وقف إطلاق النار دون إدانة لحماس. تلك المبادرات على رمزيتها-إذ لم تترجم لتأثير حقيقي- تقرّب النخب السياسية العربية من النماذج الروسية والصينية، وتبعدها أكثر فأكثر عن الغرب “المتناقض” مزدوج المعايير، الذي يدعو إلى حقوق الإنسان وفي الوقت نفسه يدعم فظائع إسرائيل في قطاع غزة.

واعمالاً لمبدأ التفاؤل، نحاول في السطور المتبقية النظر في الدروس القيمة التي قدمتها الحرب للعاملين في مجال حقوق الإنسان في الإقليم، والتي توفر لهم فرصة لإعادة النظر في استراتيجيات عملهم وضبط تكتيكاتهم، ويمكن هنا ذكر النقاط التالية:

الضغط الشعبي يغير المواقف الرسمية

يؤثر الضغط الشعبي على المواقف الرسمية للدول كلٍ بقدره، وقد أكدت الأزمة الراهنة على أهمية الرهان على الدعم الشعبي بين الجماهير الغربية في تغيير المواقف الرسمية لحكوماتهم. ففي حين آثرت الدوائر الرسمية في العواصم الغربية الصمت بشأن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، جاءت الدعوات الأولى المؤيدة للفلسطينيين من المظاهرات التي خرجت بعشرات الآلاف في شوارع مدن غربية عدة، بالإضافة إلى بعض البرلمانيين المتعاطفين الذين يشككون بشكل متزايد في دعم حكوماتهم غير المشروط لإسرائيل بغض النظر عن انتهاكاتها اليومية الفجة لقوانين الحرب. تُرجِم هذا الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية إلى موقف أكثر حذرًا من قبل حكومات الغرب، التي بدأت تدعو تدريجياً إلى توقف إسرائيل عن انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني، لدرجة البدء بالدعوة والعمل من أجل الوصول لهدنة انسانية أو وقف لإطلاق النار، لإنهاء العمليات العسكرية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر. وستكشف لنا قابل الأيام ما إذا كان هذا الضغط الشعبي سيرتب ما يتجاوز مجرد مطالبات غربية بوقف إطلاق النار إلى ضغط حقيقي لوقف الحرب تمهيداً لبدء مسار السلام.

رغم ذلك، يتضح لنا هنا أهمية الاستثمار في التواصل والتشبيك مع المجتمع المدني الغربي وبعض البرلمانيين الصادقين في دعم الديمقراطية وحقوق الانسان وهذا لزرع بذور الدعم الشعبي لحركة حقوق الإنسان المحاصرة. ستقع هذه المسؤولية بشكل أكبر على عاتق منظمات الشتات -وهي كثيرة وفي تزايد مطرد- الأكثر قرباً للشارع والمجتمع المدني في الغرب. يمكن كذلك القول بأن منظمات حقوق الانسان الدولية تمثل الحليف الطبيعي لحركات حقوق الانسان في المنطقة، فقد كانت تلك المنظمات، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، الأكثر صدقاً واتساقاً مع قيم ومبادئ حقوق الانسان الدولية، وتجلى ذلك في مطالباتها المستمرة بإنهاء الحرب في غزة منذ أجل مبكر.

استعادة فعالية الشارع العربي

ساهمت التظاهرات الداعمة للفلسطينيين -التي خرجت في الشوارع العربية في الأيام الأولى للحرب- بشكل جزئي في استعادة الشعور بالفعالية بين الجمهور العربي، خاصة في الدول التي فرضت قيودًا صارمة على المجال العام، لا سيما التحركات الشعبية في الشارع. لقد كان لاندماج الهتافات الداعمة للفلسطينيين مع هتافات المظالم ضد الأنظمة الحاكمة، الذي شهدناه في مصر على سبيل المثال، وكذلك الأعمار الصغيرة ظاهرياً لجزء كبير من المتظاهرين أثر كبير حول اثارة الشكوك حول الافتراضات الشائعة بتنامي الاغتراب واللامبالاة السياسية بين الجماهير العربية، خاصة الأجيال الشابة. ويبرز هذا أهمية الاستثمار في جيل (زد)، الذي بدأ في التفاعل مع قضايا الرأي العام ومن المتوقع أن يتولى القيادة في غضون عقد أو اثنين بحد أقصى.

لا تزال الأمم المتحدة رقماً في المعادلة

بينما كان العالم يشاهد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عاجز تمامًا إزاء تدهور الأوضاع في غزة لأكثر من 30 يومًا حتى صدور قرار الهدنة الإنسانية رقم 2712، ومع تأخر الامتثال لهذا القرار، الذي طالب بـ “هدنة إنسانية عاجل وتمديد الممرات الإنسانية” في غزة لـ “عدد كاف من الأيام”، قد يرى البعض أن الأمم المتحدة هي محض آثر بالي من للنظام الدولي العالق في لحظة تحول كبيرة. ومع ذلك، تظل أهمية الأمم المتحدة في العديد من المجالات، لا سيما في تنسيق الاستجابة الإنسانية. فقد كان لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) دوراً كبيراً في توفير ملاذات آمنة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين النازحين داخل قطاع غزة، وقدمت مستشفياتها ومدارسها الدعم الضروري للمصابين والهاربين من القصف. وكان الأمين العام للأمم المتحدة وغيره من قيادات المنظمة أصواتاً للضمير البشري تنتقد انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني، وتضغط من أجل وقف الحرب قبل مرور أسبوعين فقط من اندلاعها. إن دل هذا على شيء فهو أن وكالات الأمم المتحدة، بخلاف مجلس الأمن، يمكن أن تتجاوز تعقيدات السياسة الواقعية وتقدم المساعدة الملحة في الأزمات الكبرى، سواء كان ذلك في صورة تنسيق توصيل المساعدات أو توثيق الفظائع المرتكبة، أو الضغط على الحكومات للامتثال للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان.

الخاتمة

يبقى القول أخيراً أن الحرب الحالية لن تكون لها تأثيرات سلبية على الديمقراطية وحقوق الإنسان في دول الشرق الأوسط فقط، بل إنها بالفعل تطرح أسئلة مهمة في الغرب حول الخط الملتبس بين الانتقاد المشروع لإسرائيل من جانب وبين معاداة السامية من جانب آخر، وما يترتب على هذا الخلط من تقييد لحرية التعبير وانتشار الرقابة الذاتية خوفا من اتهامات معاداة السامية، ولا أدل على ذلك من توثيق تعرض العديد من الأفراد في مدن وعواصم غربية للتضييق أو الملاحقة بسبب إظهار التعاطف مع حياة الفلسطينيين أو انتقاد أفعال الحكومة الإسرائيلية؛ إذ يفقدون وظائفهم ويهدد مستقبلهم الوظيفي كله بسبب معارضتهم للعنف في غزة.

تطرح الحرب أيضًا أسئلة هامة حول التغطية الإعلامية المتحيزة حول الحرب في وسائط الإعلام الغربية، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الأمور سلبًا على مصداقيتها في أعين الغربيين وغير الغربيين على حد سواء، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة نسبياً، مثل تويتر وغيرها، قد كسرت احتكار وسائط الإعلام التقليدية للسردية. إن الرقابة على المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، وخاصة فيسبوك، يطرح بدوره أسئلة هامة حول كيفية حوكمة وسائل التواصل الاجتماعي بصورة ديمقراطية تحترم حرية التعبير وفي الوقت نفسه لا تحفز على العنف أو الكراهية أو التمييز.