هشام جعفر
أولًا: استعادة القضية الفلسطينية كإحدى أولويات الأجندة الإقليمية والدولي
فقد ثبَت أنها إحدى محددات الاستقرار في المنطقة، وبدون إيجاد حلول لها ستظل المنطقة مهددة للسلم والأمن الدوليين.
واشنطن -على سبيل المثال- لم تعد قادرة على إهمال القضية الفلسطينية، وسيتعين عليها أن تجعل حلّ هذا الصراع محور مساعيها، وسيكون من المستحيل بالنسبة لها أن تعالج قضايا أخرى في المنطقة إلا أن يكون هناك طريق موثوق به إلى دولة فلسطينية مستقبلية قابلة للحياة.
أكدت حرب غزة أنّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو القضية الأكثر إثارة للانقسام في السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي.
الهدوء الذي راهنت عليه المصالحات والتهدئة التي طالت بعض الملفات، مثل: الاتفاق الإيراني السعودي والتهدئة في اليمن والمصالحات الخليجية ومع تركيا، ثبَت أنّ هذا الهدوء هشّ وقابل للانفجار بسهولة.
برغم هذا فإن الأطراف جميعًا لا تريد حربًا إقليمية، وتتخوف من أن تتسع أتون هذه الحرب؛ لذا فقد سعوا جميعًا لاحتواء التصعيد. تأكد نفوذ إيران في المنطقة من خلال وكلائها، ما يدفع باستمرار الانفراج الهشّ بين السعودية وإيران.
المشكل في قادة المنطقة أنهم يعرفون ما يريدون؛ لكنهم يعجزون -حتى الآن- عن أن يبلور كل طرف منهم ما يريد؛ ناهيك عن أن يتفقوا على الترتيبات الأمنية لما بعد الحرب.
جرى الترويج لعدة سنوات لسردية الشرق الأوسط الجديد، الذي يركز على الاقتصاد بدلًا من الأيديولوجية. كانت هذه فرصة رئيسية للصين لتكثيف استثماراتها الجيواقتصادية في الشرق الأوسط، والاستفادة من قوتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
يشعر قادة المنطقة بالقلق من أن تؤدي حرب طويلة في غزة إلى عرقلة مثل هذه الخطط. تضمنت اتفاقات أبراهام رشوة واشنطن الأنظمة الاستبدادية للاعتراف بإسرائيل من خلال وعود بالأسلحة الأميركية والضمانات الأمنية.
ولكن مبادرة “الأسلحة والأمن مقابل السلام” كانت فاشلة؛ فقد أدت إلى زيادة عسكرة المنطقة، ولم تؤدِّ إلى زيادة الاستقرار، كما أظهرت الحرب في غزة. ثبت أيضًا أن إسرائيل بسياساتها تجاه الفلسطينيين وتوحشها يمكن أن تدفع المنطقة للاشتعال.
أصبح هناك إدراكٌ أكبر لضرورة دمج الفلسطينيين الذين كانوا مستبعدين في الترتيبات الاقتصادية التي يراد للمنطقة أن تنتهجها. لكن السؤال هل يتسع هذا الإدماج ليشمل المستبعدين الآخرين، مثل: لبنان، وسوريا، وتركيا، وإيران، بالإضافة إلى المهمشين، مثل: مصر، والأردن؟ سؤال يتعلق بالمستقبل، لكن من دون الوصول إلى توافق فيه؛ فإن المنطقة ستظل تعاني من عدم الاستقرار.
سمات استعادة القضية الفلسطينية
استعادة القضية الفلسطينية في هذا السياق له عدد من السمات أبرزها:
أنها تمت بيد الفلسطينيين وحدهم، وما يقوم به الآخرون هو دور المساندة والدعم، إن وجد. صحيح أنه ثبت قدرة القضية الفلسطينية على تعبئة قطاعات من الجماهير في المنطقة والعالم بشكل عميق؛ إلا أن هناك حدودًا لتأثير هذه التعبئة على تغيير السياسة.
أحدثت الحرب على غزة انقسامًا في الرأي العام الغربي، بما دفع أحد باحثي كارنيجي إلى بيان تأثيرها على الاتحاد الأوروبي بالقول: “مع تصاعد المشاعر وتزايد عمق الانقسامات، فمن الصعب أن نرى الدور الذي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يلعبه”.لم يعد هناك أب للشعب الفلسطيني في السنوات الثلاثين الماضية. تنافست الأنظمة في إيران، والعراق، وسوريا على لقب بطل الشعب الفلسطيني، لكن مع هذه الأزمة لعب الجميع لتحقيق مصلحته الوطنية الخاصة.
إيران فصلت بهدوء مصالحها عن مصالح الفلسطينيين، وتركيا أبقت على علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وصعدت خطابيًا فقط.
النظام الرسمي العربي يريد أن ينهي الحرب حتى لا تطاله نيرانها. هو على حد قول الإيكونوميست: “الجميع يريدون أن تنتهي الحرب، وجميعهم يريدون شخصًا آخر أن ينهي الأمر”.
كانت تلك هي الرسالة، المبتذلة والمثيرة للجدل في آن واحد، من زعماء جامعة الدول العربية التي تضم 22 عضوًا، ومنظمة التعاون الإسلامي التي تتألف من 57 دولة. كان هذا كل ما أظهرته القمة الاستثنائية التي انعقدت في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني في العاصمة السعودية الرياض، وأتى الاجتماع بعد مرور أكثر من شهر على حرب غزة.
لا تزال فلسطين- مقارنة بأية قضية أخرى- تؤجج المشاعر الجماهيرية في المنطقة، وقادرة على أن توحد قطاعات من الشعوب العربية والمسلمة. الجديد هو بروز مساندة شعبية عالمية.
هذه الاستعادة تعاني ضعف السياسة وهشاشة السياق المساند. الفلسطينيون منقسمون، ويعانون من غياب كيان يتمتع بالشرعية يمكن أن يمثلهم، بعد توقف الانتخابات كل هذه السنوات. الربيع العربي بانتفاضاته وموجاته المتعاقبة أنهك البلاد والعباد. أصبحت السردية الفلسطينية حاضرة بقوة على المستوى الدولي بجوار مثيلتها الإسرائيلية، خاصة لدى الفئات الشابة واليسار والحركات النسوية والسكان الأصليين، وكذلك السود في الولايات المتحدة. إن الحاضن الأساسي لهذه الاستعادة هم الفلسطينيون أنفسهم، لكن التوحش الاسرائيلي في غزة والضفة من شأنه أن يفرض حدودًا على قدرة هذه الحاضنة على المديَين: القصير والمتوسط؛ إن لم تكن هناك مساندة مستمرة لهم تضمن تقويتهم. كانت ولاتزال إستراتيجية إسرائيل هي الردع بالتوحش، ورفع كلفة أي فعل مقاوم، وهذا ما بدأ يتكشف الآن في غزة بعد الهدنة الحالية.
ثانيًا: تصاعد مشكلة التمثيل في الدول العربية وافتقارها إلى الذاتية السياسية
حيث تفشل أفعالها في تلبية مطالب السكان على المستوى المادي، والرمزي أيضًا المتمثل في الكرامة.
إن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية أيقظت الشارع العربي من جديد للمرَّة الثالثة خلال عقد من الزمن. بحمل علم فلسطين، سيتحدى الساخطون الحكام الفاسدين وغير الخاضعين للمساءلة، ولن يوقف تأثير الدومينو إلا المزيد من القمع، وسوف يستمر تمويل الطغاة في المنطقة؛ خوفًا من انزلاق الأوضاع إلى عدم الاستقرار.
قد تعمق الحرب على الفلسطينيين أزمة بعض الأنظمة؛ فقد تفجِّر أزماتها الاقتصادية والسياسية وموقفها المتخاذل في فلسطين. كما أن نتائج الحرب على مصر والأردن قد تدفع إلى عدم الاستقرار في ظل أزمة اقتصادية طاحنة.
مصر لديها الآن حربان نشطيتان على حدودها (في غزة والسودان)، وواحدة مجمدة، ولكن لم يتم حلها (في ليبيا). كما يتعين عليها سداد 29 مليار دولار من الديون الخارجية في عام 2024، (يصل البنك الدولي بالرقم إلى ما فوق الخمسين مليار دولار، وذلك إذا ضم ديون الهيئات الاقتصادية)، وهو مبلغ يعادل 85% من احتياطاتها الأجنبية.
أما الأردن فقد امتزجت أزمتها الاقتصادية بالمشاعر المعادية للإسرائيليين؛ فيفاقم ذلك أزمة الشرعية. سوف تركز هذه الأنظمة على البقاء، وستحاول تحويل حرب غزة إلى فرصة، لكن هل تستطيع؟
قد يرتفع الطلب على التمثيل مرة أخرى. ولكن مع تصاعد المظالم وتقييد سبل المعارضة إلى حد كبير، فإن القلق يكمن في أن حماس قد تقدم نموذجًا بديلًا، ليس من مدخل توقع صعود الجهادية مرة أخرى؛ ولكن أيضًا من زاوية أن جزءًا مقدرًا من التفاعلات المؤثرة في المنطقة تقوم به فواعل من غير الدول.
فبرغم قوة دول المنطقة، تظل حصة كبيرة من السلطة خارج النظام القائم على الدولة. جزء من السلطة في يد أولئك المستبعدين منها.
من المقرر أن تجري مصر انتخابات في ديسمبر الجاري، تليها في عام 2024 الجزائر، وإيران، وموريتانيا وتونس. ومن المؤسف أنه باستثناء موريتانيا، فإن الانتخابات ستكون هزلية، إذ يتم تحديد النتائج مقدمًا.
سوف يسجل المستبدون انتصارات ضخمة، ويوسعون حكمهم، بينما تستمر الديمقراطيات في المنطقة، بشكل أو بآخر، في العراق، والكويت، ولبنان، والمغرب في التخبط.
وستظل المقولة السائدة للحكام العرب: “نحن نوفر الاستقرار”، لكن ثبَت مع “طوفان الأقصى” أنه يحتاج مزيدًا من الاستثمار فيه حتى يتحقق. فهل سيحرص الجميع على الاستثمار فيه بما يكفي لتحقيقه، أم تظل المنطقة نهبًا لعدم الاستقرار؟